الشمندورة!!!!! 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا الشمندورة!!!!! 829894
ادارة المنتدي

كشتمنة النسيم

الشمندورة!!!!! 103798

الشمندورة!!!!! 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا الشمندورة!!!!! 829894
ادارة المنتدي

كشتمنة النسيم

الشمندورة!!!!! 103798

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
خبر عاجل قريباً جداً سوف نحتفل بافتتاح منتديات النسيم النوبية

 

 الشمندورة!!!!!

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
كريم شريف الكشتمناوى
نوبي ذهبي
نوبي ذهبي
كريم شريف الكشتمناوى


عدد المساهمات : 176
تاريخ التسجيل : 28/07/2009

الشمندورة!!!!! Empty
مُساهمةموضوع: الشمندورة!!!!!   الشمندورة!!!!! Icon_minitimeالأربعاء مارس 31, 2010 6:20 pm

أول رواية نوبية في الأدب العربي
محمد خليل قاسم





د. رفعت السعيد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحكيم الجالس القرفصاء

الأب تاجر صغير في قرية قته ، وتجار الفقراء هم أيضاً فقراء ، فربائنه لا يمتلكون نقوداً ، فمن أين تأتي النقود إلي قرية نوبية ، كل ما يمتلكونه .. النخيـل والبلح الذي تواجهه شمس النوبة الصارمة ، وإذ يحاول أن يواجهها يجف ، ويصبح شمراً ، بعد أن يكتسب من هذه الشمس المميزة حلاوة مميزة هي أيضاً ، والمراكب تحمل التمر إلي أسوان ، ويعود التاجر ليوزع النقود . هنا وهنا فقط يمسك النوبيون بالنقود ويسددون حساب عم خليل قاسم البقال .
والأسرة كلها يتعلق طموحها بأن يتعلم الولد ’’ محمد ‘‘ كي يفلت وتفلت معه من إسار الفقر الذي يحاصر الجميع . ومن المدرسة الإلزامية إلي مدرسة عنيبة الإبتدائية حيث تفوق تفوقاً ملحوظاً .
ويجلس القرفصاء ، كما إعتاد دائماً ، ويحكي لي وكأنه يسبح في مياه النيل المموه بالطمي ، يحكي بصوت أجش ، حتي السنة الرابعة الإبتدائية لم أغادر النوبة ، وعندما أخذونا إلي أسوان كي نمتحن إمتحان الشهادة الإبتدائية رأيت كل الأشياء المبهرة التي كنت أشاهد صورها في كتاب المطالعة وأرسم صوراً مجسدة لها ‘‘ .

.. ’’ ويومها كانت المرة الأولي التي أري فيها القطار ، ساعتها ملأني الإنبهار ، وتسارعت دقات قلبي من الدهشة ، شددت قامتي ، ضربت تعظيم سلام ، وهتفت بصوت عال فاجأ الجميع ’’ إن هذا القطار ‘‘ .. هذه العبارة كانت مكتوبة أسفل صورة القطار في كتاب المطالعة ، ولفرط دهشتي ضحك الجميع ‘‘ .
( كان زكي مراد زميله في هذه المرحلة المبهرة ، وظل دوماً يشاكسه - ونحن في السجن - بأن يعيد ويعيد القصة ) .

.. أنهي محمد تعليمه الإبتدائي ، ومازال الحلم يراود الجميع . أن يتعلم الولد فيقفز بنفسه وبكل الأسرة من قطار الفقر . ولكي يتعلم فتي نوبي فقير في مدرسة ثانوية ، لابد أن يبحث عن قريب يقيم معه في القاهرة ، فلا أمل غير ذلك .

ووجدت الأسرة حلاً .. فخاله يقيم في القاهرة ، حيث يعمل طباخاً لدي أسرة الخواجـة ’’جون ‘‘ الذي يمتلك أسطبلاً لخيول السباق .

ويذهب الفتي الاسمر ، النحيل كنواة البلح ، مرتدياً ثيابه الباهتة ، التي تتحايل كي تبقي معه ، ويتحايل كي يبقي معها ، فلا أمل له في غيرها . يذهب ومعه أوراقه ليقدمها إلي ناظر مدرسة القبة الثانوية ، وأمسك الناظر بالأوراق .. أي شئ يغري في هذا الولد كي يمنحه مقعداً مجانياً في مدرسته ، العينان الذكيتان تلمحان الإمتعاض علي وجه الناظر ، وقبل أن ينطق الناظر بكلمة الرفض ، شد الفتي المبروم كنواة البلح قامته ، وبصوته الجهوري الذي لم يكن أصبح أجش بعد .. صاح بأبيات شعر تواردت إلي خاطره في مديح الناظر فصاغها وإنطلق بها علي الفور .. إندهش الناظر من قدرة الشاعر الصغير ، وقبل أوراقه علي الفور .
.. ومن القبة الثانوية حيث واصل نجاحه المتفوق إلي كلية الحقوق . الآن يوشك حلم الفتي وحلم الأسرة أن يتحقق ، فها هو يقترب من نهاية المطاف ، وربما يصبح محامياً مرموقاً ، أو وكيل نيابة .
الأسرة كلها تعلق أبصارها بخطاه ، نحو خلاصها وخلاصه .

ولكن ثمة أبصاراً أخري تعلقت به وتعلق بها ، فأنسته نفسه ، وطموحه وأسرته ، وكل شئ إلا هموم الوطن وهموم الفقراء .
أبصار أخري تعلقت به لقنته أنه لا خلاص لنفسه إلا بخلاص الوطن ، ولا نجاة إلا بنجاة زورق الفقراء جميعاً من طغيان الطغاة والمستغلين .

كان الفتي قد إنغمس هو وصديق صباه زكي مراد وسط أندية النوبيين المنتشرة في أرجاء القاهرة الفقيرة ، وإستطاعا أن يجعلا منها مسرحاً لأنشطة ثقافيـة ، وفكرية ، وأدبية ، وسياسية مـتألقة ، وبعد أن كانت جدراناً جافة لا تستقبل إلا المآتم والأفراح النوبية ، وإمتلأ الوجدان بصخب الفعل السياسي وضجيج الأداء الثقافي والفكري المتميز .
.. وهناك كان شيوعي متوهج ، لا يكف عن الحركة ، وعيناه اليقظتان قادرتان علي إلتقاط كل من يحملون قلباً يخفق بحب الفقراء .. وإلتقي الفتي بهذا الشيوعي المتوقد حماساً .. ’’ عبده دهب ‘‘ وأصبح هو أيضاً شيوعياً .

همومه الصغيرة توارت ، طموحاته الشخصية إنكمشت ، وإنهمرت في داخله حزمة مكثفة من ضوء باهر ، رأي كل الحقائق علي حقيقتها ، وإنكشف الغطاء الذي كان يغلف الأحداث . أصبح الآن يري أفضل ويفهم أفضل ، ويعرف لماذا وكيف هو فقير ، ولماذ وكيف يقع الظلم ؟ .

وفي جلسة القرفصاء التقليديـة فوق رمال سجن جناح ، حكي لي قصته مع الضوء الجديد تحدث عن عبده دهب بكلمات متسارعة ، كأنه بندقية سريعة الطلقات ، كشف الغطاء عن كل شئ ، وأمسكني مفتاح فهم الأشياء والأحداث .

لا تتصور كم السعادة التي غمرتني وأنا أفهم ، وأستجمع المزيد من الفهم ، لا تتصور كم الكراهيـة التي ترسخت في أعماقي لهؤلاء الذين دفعوا بنا بعيـداً عن بلـدنـا وتراب أجدادنا بعد التعليـة الأولي لخزان أسوان .. هل تصدق أنهم دفعوا لنا 15 مليماً ثمناً للنخلة المثمرة ! وهل تصدق أن واحداً من الباشوات قال في مجلس الشيوخ علناً كلاماً سجل في المضبطة يرفض أية زيادة في العويضات قائلاً ببساطة : إذا أصبح النوبيون أغنياء ، فمن أين نجد خدماً يخدمون في بيوتنا ؟ .
كلمات عبده دهب غيرت الفتي ، سحرته ، ومضي كالمسحور نحو مستقبل جديد .

حتي محبوبته هجرها وهو يشق طريقه الوعر نحو الحياة الصعبة لشيوعي نسي نفسه ، وكليته وأحلامه ، وأسرته ، نسي كل شئ إلا نضاله وكفاحه ..

حكي لي طويلاً عن محبوبته .. طويلاً جلس القرفصاء .. بحثنا عن قطعة ظل في أرض السجن الصحراوي الجاف وجلس يحكي ’’ كانت سمراء رائعة الحسن ، متوقدة الذكاء ، إبتسامتها لا تنسي (وصفها طويلاً ، وأعاد الوصف عشرات المرات ، لكنه أبداً لم يذكر إسمها ) بعد أن إقتربا أكثر سحبها من يدها إلي جروبي مصر الجديدة قائلاً : يجب أن تعرفيني جيداً ، هؤلاء السفرجية أقاربي وأنا منهم . وصمتت ، لم تتكلم ، ظن أنها تفكر ، أو تغالب ترددها ، لكنها في اليوم التالي سحبته من يده عبر شوارع ذات الحي وأمام محل أحذية أشارت هذا أبي وهذا عمي ‘‘ .
لكن الحب الوحيد في حياته يتلاشي أمام وطأة حب أكبر وأعمق وأشمل ، حبه لوطنه وشعبه وقضيته التي إخذت منه كل وقته ، بحيث لم يتبق منه شئ لأي شئ آخر . وأخذت منه كل شعره بحيث لم يتبق منه أي شعر في أي موضوع آخر .
وتختفي قصائده التي تغني فيها بمحبوبته لتحل محلها قصائد من نوع جديد . قصائد تتغني بالوطن :


أنا مصري وفي مصريتي ينطوي أمسي وينساب غدي

أنا مصري وفي مصريتي بنع أحلامي ومثوي جسدي


ـــــــــــ
وقصائد أخري تتغني بأحلام الفقراء :

نحن نبني لأن فينا جياعاً يعمرون الكهوف بين الجبال
نحن نبني لأن فينا عراة يخدمون الثراة في أسمال

نحن نبني لأن فينا رضيعاً قارب الموت مستبد السعال

نحن نبني وما بني الشعب باق أبد الدهر ساخراً بالزوال


ولكن .. حتي الشعر آخر ما تبقي له من مباهج البشر العاديين ، ظل ينافس إندفاعه المحموم نحو نضال سياسي لا يهدأ ، كان يقتطع بعضاً من وقته كي ينقض علي دار الكتب في باب الخلق كي يلتهم دواوين الشعر القديم ، وبعضاً آخر كي يشارك في ندوات شعرية ، تكاثرت في السنوات الأولي من الأربعينات ..
ونعود إليه جالساً القرفصاء مرتدياً بدلة السجن الزرقاء منتحياً معي في مسالك سجن جناح بالواحات الخارجة .
’’ ذات يوم تأخرت عن إجتماع تنظيمي هام وسألني المسئول لماذا ؟ فقلت : كنت في ندوة شعرية رائعة . إبتسم المسئول وقال : لا بأس ، ولكن أحذر من أن تكون نصف شاعر ، أعرف أن إجادة الشعر تحتاج إلي تفرغ ، ولسنا ضد ذلك فلعله من المفيد أن يكون أحد كبار شعراء مصر شيوعياً ، ولكن حاذر من أن ترقص علي السلم لتجد نفسك في المنتصف فلا تصبح شاعراً كبيراً ، ولا شيوعياً جيداً ، وبذات الحدة التي إعتادها مع هذا الأمر ، وكما قاطع محبوبته السمراء ، قاطع محبوبه المنظوم ، لكن الشعر ظل يلاحقه في كل حدث وفي كل حديث ‘‘ .

ويمضي الجالس القرفصاء في حكايته مؤكداً في حماس لم تكن تحتاجه الحكاية ، وإنما يحتاجه إلحاحه الحميم علي تلقيني كل ما تعلم . وكل ما يعتقد ، يمضي فيقول : أن تكون شيوعياً تصبح كراهب ، تترك كل قديمك ، كل الماضي ، وكل ما هو خاص ، ...أرة أو كلية أو هواية أو محبوبة وتهب حياتك ، كل حياتك لمعتقدك ومبدئك ‘‘ .
وهكذا ظل محمد خليل قاسم طوال حياته .

ورويـداً رويداً ، وجد قاسم نفسه منهكاً بكل لحظات حياته ، وبكل فكره ووجدانه في نضال متواصل وسط الأنديـة النوبيـة ، كي تتحول إلي منابع للفكر والثقافـة والتقدم الحضاري ، ومقاومـاً دعاوي الإنفصال عن مصر التي حاول غرسها رجال حزب الأمة السوداني ، ودعاوي ترددت سراً بين النوبيين بأن ينفصل السودان ، وأن تنفصل النوبة بشطريها المصري والسوداني لتؤسس دولة جديدة .

وقد إستندت هذه الدعاوي إلي قهر وظلم وإمتهان حقيقي تعرض له النوبيون ، وعندما أبديت دهشتي من إمكانية سريان مثل هذه الدعاوي قال الحكيـم الجالس القرفصاء : ’’ أنت لا تعرف كم القهر الذي شعرنا به ، والذي عانينا منه .. أن تكون فقيراً فهذا شئ . أما أن تكون فقيراً نوبيـاً - وكل النوبيون فقراء - فهذا شئ مرير .. مرير ‘‘ .

وإنهمك قاسم أيضاً في نضال لا يتوقف في قسم الأحياء (منطقة القاهرة ) ليصبح واحداً من أبرز كوادر الحركة المصرية للتحرر الوطني (ح.م) ويشارك في تحرير مجلة أم درمان التي أصدرتها (ح.م) لتصبح ’’ مجلة الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ‘‘ .

وفي عام 1948م قبض عليه ، وحوكم عسكرياً . حكم عليه بالسجن خمس سنوات .
’’ ضربتين في الرأس توجع ‘‘ ضربة السجن ، أما الضربة الأخري ، فقد كانت قراراً قاسياً يحتوي علي كل عنف الفقر الذي يقسو علي الإنسان ، فيجعله أشد قسوة . هو يفتش عن لقمة خبز لنفسه ولأولاده . قرار من زوج أخته التي تعلق بها وتعلقت به ، والوحيدة من أقاربه المقربين المقيمة في القاهرة .. أقسم زوج أخته ’’بالطـلاق ‘‘ أنه لا إتصال مع هذا الشاب المشاغب ...

وظل محمد خليـل قاسم طوال الفترة من 1948م وحتي عام 1964م بلا أية علاقة بأقاربه .. وإكتفي بدفء الرفاق ، وحنان الصداقة الرفاقيـة التي جمعت بيننـا وبينه .

وفي عام 1953م تنتهي فترة السجن ليخرج إلي عالم مضطرب وصراع مرير بين ’’ حدتو‘‘ ( الحركة الوطنية للتحرر الوطني ) وبين حركة الجيش ، يخرج من السجن ليواجه بهموم متراكمة فوق أكتاف رفاقه وهم يخوضون معركة نضال لا تهدأ في مواجهة قهر بوليسي يتصاعد ويزداد تصاعداً .

ولكن ..
أي خيط سحري يمكنه أن يشد أثنين ليربط بينهما بصداقة حميمة لا مثيل لها ، ولافكاك منها ، أي خيط هذا الذي يمكنه أن يفرض علي إثنين أن يختار أحدهما الآخر من الآخرين ليصبح أخاً وصديقاً وكي يصبح أقرب وأوثق .
إذا ما إكتشفنا هذا الخيط السحري فسوف نكشف أفاقاً رحبة تكشف لنا أسرار القلب والحب والصداقة .. المهم أنني وهو إرتبطنـا بهذا الخيـط السحري ، وأصبحنـا من بين آلاف الرفاق أكثر صداقة وأكثر إرتباطاً ، أصطفي كل منا الآخر ، أنا وجدت فيه أستاذاً حرصت علي أن أتتلمذ عليه ، أعجبني فيه إصراره ، عناده ، ترفعه ، رفضه الحاسم لأن يحني رأسه إلا للحقيقة وللأغلبية وللمبدأ ، وهو وجد فيّّ شخصاً يستحق أن يتتلمذ عليه .. وأصبحنا أصدقاء .

وبعد كل ما سبق ، لعل من حق القارئ أن يسأل كيف كان لقاؤكما ؟ .

كان شتاء نفمبر بارداً وممطراً ، والعام كان كبيساً ، فمنذ بدايته بدأت حركة يوليو حملتها الشهيرة ضد الدستور والأحزاب ، وكان مالم يكن منه بد ، وأعلنت حدتو معارضتها لنظام يوليو ، يسقط نجيب قاتل *عصام ’’ أول منشور صدر من رابطة الطلبة الشيوعيين - حدتو يعلن المعارضة بل والإسقاط ، وإحتاج الأمر نقاشاً طويلاً في قيادة حدتو حول مناسبة رفع شعار الإسقاط وحول حق ’’ الرابطة ‘‘ في المبادرة بموقف كهذا .. وكان الصدام مفروضاً وإن كان في واقع الأمر مفترضاً ، وبدأت حملة الإعتقالات وتركزت - كتقليـد إستمرت عليه حركة الجيش - ضد ’’ حدتو ‘‘ المنظمة التي بادرت بتأييد الحركة ...
.. وكانت حملة أغسطس 1953م محاولة تمشيط كامل لمنظقة المعز (الإسم الحركي لمنطقة القاهرة في تنظيم حدتو ) وفي حملة واحدة أعتقل عدة مئات من قيادات المنطقة ، بل وكوادرهـا بل وعضويتها العاديـة ..

كنا نحن بعيدين عن الضربة ، فرابطة الطلبة كانت تنظيماً مستقلاً عن منطقة المعز ، وتابعة مباشرة للمركز ، وعندما بدأ العام الدراسي في سبتمبر 1953م ، إكتشفنا أننا وحدنـا في القاهرة ، وبلا علاقة بالمركز ، فقد تقطعت السبل ، الباقون من أعضاء اللجنة المركزية هاربون ، وما من سبيل للإتصال بهم ، ببساطة إتخذنا قراراً بأن نواجه مسئوليتنا في رفع لواء المنظمة والتأكيـد علي إستمراريتها ..
وبنشاط شاب وحماسي ملأنـا شوارع القاهرة كتابات علي الجدران ضد الدكتاتورية العسكرية ، وإلتمسنا وسائل بسيطة (شريط الورق اللاصق ) يتولي كل عضو كتابة شعارات عليه ثم يقوم بلصقها علي صناديق البريد في المنازل وعلي أبواب الشقق ... وتحت كل شعار علي جدار أو علي شريط من الورق كان إسم حدتو يثير دهشة القادة المختفين ، الذين أحسوا فجأة بوجود نشاط متسع لمنظمتهم ، لكن يدهم لا تطاله ، أما السلطة ورجال أمنها فقد كانوا أشد حيرة بعد أن تيقنوا من تمشيط منطقة القاهرة .. ولعل ما زاد غضب النظـام أننـا كنا كشباب تفتق ذهننـا عن أساليب مثيرة مسدسات رش السائل يحملها الأعضاء ومعها زجاجات من الحبر لتصب غضب حدتو علي صورة قادة النـظام التي ملأت الجدران .

والكتابة علي الجدران تطلبت نوع من الطباشير المصنع من زيت البرافين وبودرة اللون الأحمر ، مصنع كامل لهذا الطباشير ، إدارة محمود العطار ، وكانت الكتابة به أسهل ، أما محوها فهو شبه مستحيل .
.. وتزايد نشاطنـا بلا قيادة مركزية ، حتي وصلتني كمسئول عن الرابطـة وعبر طريق شديد الإلتواء إشارة تطلب مقابلة مسئول مركزي .

في السابع من نوفمبر ... ولم أزل أذكر اليوم ، كان السماء ممطراً وبارداً ، وتحت المطر إنتظرت ، توقفت سيارة قديمة عرفت بعدهـا أنها ملك لمحام لا يحب الآن أن نذكر إسمه ضمن تراثنا ، هبط رجل مربوع الشكل ، سمرته داكنه ملامحه رسمت بشكل متجهم تعطيك إنطباعاً بأن وجه لا يعرف الإبتسام وقلب جاف بلا روح .. أفلت الرفيق الواقف معي والذي كانت مهمته أن يضعني في قبضة المركزية .

لم يقل مساء الخير ، سألني بيتك آمن ؟ قلت نعم .. قال : خذني إليه .
في يده كانت لفافة من ورق جرنال مبتله ، وإتجهت نحو تاكسي مركون إلي جوار الرصيف كاد يخلع ذراعي ، وسار بي ، علمني أول درس ، لا تركب تاكسي واقفاً ، ولا تركب أول تاكسي يمر عليك ، فقد تكون الآمن وجهه إليـك عن عمد ، سكت قليلاً وقال وكأنه يعبر عن دهشته . من فرط سذاجتي .. ’’ هذه التعليمات الأمنية معروفة من أيام (ح.م )‘‘ .

في البيت حيث كنت أختبئ أنا ومحمود العطار زميل الدراسة ورفيق النضال جلست معه ، في ضوء المصباح تأملت الوجه العابس ، أسنان غير منتظمة ، شفاه غليظة بعض الشئ : لم يستأذن ولم يسأل إن كانت هناك مساحة لنومه ، خلع ملابسه وفك اللفافة المبللة وإرتدي كل ما بها .. كل عتاده الذي ينتقل به من مخبأ لآخر ، بجامة بنصف كم .. ونصف ممزقة ، أسرعت وأحضرت له بيجامة صوف أتت أضيق منه كثيراً ، لكنه كان سعيداً بها سعادة طفل بلعبة جديدة (بعد فترة قال لي : هل تعلم سر سعادتي .. لقد أحسست بدفء الرفاق وأخوة النضال ) .

لم يعطيني وقتاً كي أستوعب مفاجأة وجود ضيف جديد في مخبئنا ( 11 رضوان شكري - العباسية ) وبدأ علي الفور في محاسبتي عن كل ما كان .. سأل وكأنه جنرال ’’ من المسئول عن كل ما حدث ؟ قلت : أنا .. أخرج من جيبه ورقة صغيرة تحتوي ، علي شعارات عديدة كنا قد أضأنا بها جدران الحي الذي كانت القيادة المركزية أو ما تبقي منها تختبئ فيه دون أن ندري ، وبدأت أول خيوط التحـاسب والمعرفة الدقيقة بقواعد الأمن في العمل السري تنساب ببساطة وهدوء .. إنها خطوة جيدة أن تقرر مجموعة من الشبان مثل هذا التحدي .. خطوة تدل علي شجاعة وعلي ولاء للحزب ، ولكن .. ‘‘ ولكن هذه بدأت سلسلـة إنتقادات عديدة .

’’ لقد أربكتم أمن القيادة . كنا نختبئ في موقع هادئ ، أتيتم وكتبتم في الحي الذي نقيم فيه ، أثرتم شبهات أمنية حول الحي بأكلمه ، إستنفر الأمن وإشتعلت التحريات وإضطررنا إلي عدم الخروج لأكثر من أسبوعين ، فجأة ضحك ضحكة عاليـة ، أدهشتني أنه يعرف كيف يضحك ، قال : ’’ تصور ‘‘ لقد كتبتم علي جدران ذات البيت الذي كنا نختبئ في بدرومه .. أكدت أننـا لم نعرف ، فقد كتبنا بعيـداً عن الحي الذي يسكن فيه معظمنـا .. ولكن ما قيمة قولي ’’ لم نكن نعرف ‘‘ .
ثم بدأ التحاسب السياسي ، الشعارات لم تكن دقيقة ، إنها أشد وأعنف مما يجب ، وإنساب جدل بين شاب شعر بالرغبة في الإنتقام من نظـام تعتقل الرفاق وبين سياسي عاقل يزن الأمور وزنـاً موضوعياً .

ثم سألني بغتة لماذا تلوثون الصور ؟ إنه عمل إحتجاجي ، ولكن ما قيمته النضاليـة ، ثم من يعرف أنكم أنتم الذين فعلتموهـا ؟ .
دق الباب الدقات المتفق عليهـا ، دخل ’’ محمود العطار ‘‘ ليجد شريكاً في المسكن ، عندما سألت الضيف : ألست جائعاً ؟ أجاب بسؤال لم يخطر ببالي ’’ أتعرف أن اليوم هو عيد ثورة أكتوبر الإشتراكيـة ؟ ‘‘ يالخلو بال هذا الرجل (فيـما بعد تعلمت كتقليـد نضالي أن المناضل يجب أن يتجاوز مأزق اللحظة وأن يخرج نفسه منه وعن عمد .. كي يستطيع أن يتماسك إزاء الحدث ) البقال المجاور ناولنـا عدة زجاجات من البيرة ، وأحضرت ما تبقي من طعام أتاني من أسرتي بالمنصورة ، لم أزل أذكر دهشته عندما تربعت تفاحات ثلاث علي المائدة . تباسط معنا صارت ضحكاته تعلو وهو يؤكد أنه لم يأكل تفاحاً من قبل . نحن نوبيون ، نعيش علي هامش الكون ، أن تكون نوبياً فقيراً فذلك شئ يصعب ملاءمته مع حياة الترف ! إمتد الحديث . قال إن أول مرة رأي فيهـا التفاح كانت بعد حضوره القاهرة بعدة سنوات ، سمع عنه ، إستخدمه كوصف جميـل في أشعاره ، رأه مرة أو مرتين ، لكن أن يتذوقه ، لم يطمع إلي ذلك ، نحن نوبيون . هل تعرفون معني ذلك .


الحفل مستمر شربنا البيرة ، تفاهمت عيناي مع عيني محمود العطار ، تركنا له التفاحات الثلاث ، أصر أن نقتسمها ، ورفضنا ، بدأت أتلو شعراً حفظته أثناء معتقل هايكستب ، قصيدة عن ثورة أكتوبر ، ألقيت أثناء إحتفال أقيم بالسجن بهذه المناسبة .. أذكر منه الآن شطراً يؤكد أنه كنا نحتفل الآن بهذا العيـد في السجون .. فغداً يحتفل الشعب به ’’ في النوادي وفي النقابات جهاراً ‘‘ .
كنت أخطئ ، وأنسي وأتعثر ، وكان يصحح ويواصل .. عندما أنتهيت سألني : اين حفظت هذه القصيدة ؟ قلت : في هايكستب . صاحبها إسمه محمد خليل قاسم . لكنني لم أره فقد ترك القصيدة ورحلوه إلي معتقل الطور ، بدأت حكايات المعتقل فجأة سألني : إذن أنت رفعت ، ذلك الولد الصغير الذي كان أول من دخل المعتقل بشورت قصير .. لقد كنا نتندر في الطور بالطفل الذي إعتقلوه ، إذن هو أنت ، قام وإحتضنني ، همس في أذني : أنا محمد خليل قاسم . حذار أن تشوه شعري بهذا الإلقاء المرتبك مرة أخري ، وضحكنا طوال الليـل .
كان يبقي أغلب الوقت بالبيـت ، لكنه نجح في أن يجعل من نشاطنـا شيئاً أكثر فاعلية وأقل إنفعالاً ، بدأ يوجهنا ويسألنا لماذا تكتفون بهذه المجموعة من الطلاب ؟ ولماذا لا يعود من هو غير مطلوب القبض عليه إلي الجامعة لينشط وسط جموع الطلاب ؟
وبدأ النشاط الطلابي من جديد .. سامي برهام ، يحي عبدالسيد ، نهاد أنور ، أنور أبوالعلا ، محمد متوكل ، عباس رفعت ، فؤاد يوسف ، سليمان سيداروس وأسماء أخري تساقطت من الذاكرة ، وإلتهبت حقوق عين شمس بعمل طلابي نشط أثمر لجنة قوية ’’ للجبهة الوطنيـة الديمقراطيـة ‘‘ وفديون ومصر فتاة وشيوعيون ومئات من الطلاب الوطنيين ، والتي إستمرت حتي بعد إعتقالنـا في قيادة عمل طلابي نشاط مثير أثمر إنتفاضة حقوق عين شمس مارس 1954م والتي إستمر فيها إعتصام طلابي مثير لعدة أسابيع ، كانت ميكروفونات المدرجات مركبة علي جدران السور لتذيع بيانات وأناشيـد وهتافات علي كل سكان حي العباسية .. قطعوا عنهم النور ، إستخدموا مولد الكهرباء الخاص بكليـة الهندسة .. ( كانت الأنباء تأتيني وأنا في سجن مصر فأعيـد الفضل لصاحبه وكان ساعتها في السجن الحربي ) .

كان لا يخرج إلا قليـلاًَ ، لكن خيوطاً سحرية عديدة كانت بين يديه ، إتصالات بالحزب السوداني ، علاقات بالعديد من أصدقاء حدتو وعشاقها ، إمكانيات فنية لا بأس بها .. ذات يوم عدت إلي المنزل وجدته مبتهجاً قال هل لديـك مكان لرفيق هارب ؟ وكنا نمتلك شبكة من مساكن الطلاب من أبناء الأقاليـم قلت : نعم . (عودني ألا أسأل عن أسماء أو معلومات ) . قال في المساء ستوصل رفيقاً إلي هذا المكان ، لوح بأصبعه الأسمر : علي مسئوليتك كان الهارب احمد طه . وأخذته إلي بيت علي مجاهد رفيقنا طالب الطب ..
تفرقت السبل .. تركنا بعد أن إطمأن إلي ضبط إيقاع العمل ، وبعد أن تكونت لجنة منطقة المعز من جديد ، ولم يعد ثمة مجال بعد لأعمال إنفعالية أو غير مخططة .
بعد فترة قبض عليه ، إلي السجن الحربي أرسل هو وزكي مراد واحمد الرفاعي ومحمد شطه وأخرون ، أمسكت بالقلم لأكتب منشوراً أدين فيه الإعتقال ، وأدين إرسالهم إلي السجن الحربي ، تدفقت كلمات ساخنة كرصاص مصهور ، فجأة وجدته يحذرني : لا تكتب منفعلاً ، أكتب بموضوعية ، وكتبت من جديد .
كنا في سجن مصر وأتوا إلينا من السجن الحربي ، ومعهم ضجيج ’’ بيان السجن الحربي ‘‘ وإشتعلت الإتهامات بالخيانة والعمالة والرضوخ لمطالب الدكتاتورية العسكرية .. الموقعون علي البيان عديدون لكن من بينهم ’’ محمد خليـل قاسم ‘‘ سحبته من يده وأغلقت باب زنزانته وطلبت إيضاحاً ، قال : ببساطة أستطيع أن أتنصل من المسئوليـة بالقول بأن أعضاء المكتب السياسي هم الذين كتبوا ووقعوا ، لكنني مقتنع بما فعلت . وعلي إستعداد أن أواجه الجميـع برأيي ، حذرته من ذلك فالغليان ضد البيان يسود الجميـع حتي أقرب الناس إليه . قال : كلمة لم أزل أذكرهـا . ولم تزل تثير لي المتاعب لأنني أتمسك بها . قال : ’’ المناضل الذي لايستطيع الدفاع عن موقف إتخذه لا يستحق أن يكون مناضلاً ، وخير له أن يذهب إلي بيته ويتركنـا ‘‘ .
بعد نقاش طويل سألني : وأنت ما هو موقفك ؟ ‘‘ قلت : لست مقتنعاً بصحة ما فعلتم ، ولست مقتنعاً بأنكم خونة ، وسأسكت ، لن أتكلم ولن أتخذ موقفاً ‘‘ .
لقنني الدرس الثاني .. ’’ هذا أتعس موقف يتخذه مناضل ، خذ موقفاً ضدي فهذا أفضل ، فمن القول صائباً أم غير صائب يمكن للحقيقة أن تبرز ويمكن للكادر أن يتعلم ، أما الصمت فهو جبن .
.. إتخذت موقفاً أعلنته للجميـع : ’’ أنا ضد البيان ‘‘ ( وكنت مخطئاً في ذلك ) وضد إتهام الرفاق بالخيانة ، وغضب مني الجميـع إلا هو .
بدأت الإستعدادات لمهرجان محاكمات الدجوي .. ضابط موتور ، يقال أنه إشتهر بالجبن في معارك القتال ، إستأسد علي منصة المحكمة ، وقررت حدتو أن تواجهه بما يستحق ، سلسلة من الدفاعات السياسية الشجاعة ، كنا قد أصبحنـا صديقين حميمين ، أخذت أعاونه في نسخ دفاعه السياسي علي ورق البفرة ، حتي يمكن تهريبه إلي الرفاق خارج السجن .
بعد التمام . أغلقت الزنازين ، وأشعلنا ناراً لنذيب الإسفلت الذي يغطي أرضية الزنزانة ونكشف عن مخبئنا حيث الكتب والتقارير الحزبية والأوراق والأقلام . أسندت غطاء جردل الماء علي ركبتي وأمسكت بالقلم بينما ثبت ورقة البفرة جيداً بطرف أصبعي ، أخذ يملي عليّ ’’ نص دفاع المناضل محمد خليل قاسم ‘‘ توقفت معترضاً علي كلمة ’’ مناضل ‘‘ قلت نحن نقولها عنك ، لكن لا تقلها عن نفسك ، صمم علي موقفه ’’ أنا مناضل ، أنا لم يبق لي من الحياة سوي هذه الكلمة ، لم أكمل تعليمي حتي أصبح دكتوراً أو حتي أستاذاً ، منذ السنة الثانية في كلية الحقوق قبض عليّ ، ومن ساعتها وأنا من سجن إلي سجن إلي هروب إلي سجن ، أسرتي تستنكرني ، ليس لي سوي أختي زوجها حلف بالطلاق ألا تراني ، وألا تراسلني ، وألا تذكر إسمي ، يقولون لي أنها تكتفي ببكاء المقهور ، دموعها أبداً لا تجف ، ماذا بقي لي سوي الحزب والنضال ! وماذا سأخذ سوي هذه الكلمة ؟ .
أتركها لي .
تركتها له ، وأملي دفاعاً شجاعة مزدوجة ، فقد أدان أخطاء النـظام إدانة حاسمة قاسية . وتهكم علي القاضي ’’ الجنرال ‘‘ كما أسماه تهكماً لاذعاً يكفي للحكم عليه بالإعدام ، وفي نفس الوقت تمسك بموقف حدتو المبدئي من ثورة يوليو في مواجهة غوغائية العناصر اليسارية المتطرفة .

الحكم أتي فوق ما توقعنا ، ثمانية سنوات أشغال شاقة .

قبلهـا كان قد أمضي خمس سنوات ..
لم تفارقه إبتسامته ، بل وعلي الفور إرتجل قصيدة تدعونـا للتماسك والإستمرار . كنا نودعهم وهم يغادرون إلي سجن طرة .
إصطففنا في الدور الأرضي ، ألبسوهم الملابس الزرقاء ، ملابس المسجونين ، ومنحوهم أوسمة الأشغال الشاقة قيوداً حديدية تلتف حول الوسط ، وتمتد لتقيد الساقين ، وسيبقي هذا ’’ الحديد ‘‘ كما يسمونه ملاصقاً لأجسادهم ثمانية سنوات .. كانوا عديدين : زكي مراد ، محمد شطه ، شريف حتاته ، حليم طوسون ، محمد خليل قاسم . وإنطلقنا نغطي دموعنـا بأناشيـدنـا ...
إذ يترك السجن رفيقي
إذ ينطلق من قيدنا
كالريح في الجو الطليق
أذهب إلي رفاقنا
قل لهم أننا ننتظر
كر الليالي والنهار
حقدنا كاد أن ينفجر
والفجر يبدو ينادي
هيا أرفعوا أعلامنا
قد خضبت من دمنا
توقفنا ، لم نكمل النشيد تغلبت الدموع ، إنفجر بكاء الرجال ، هم لم يبكوا كانوا ، أكثر تماسكاً ، كانوا يشجعوننـا ، ويمنحوننـا القدرة علي الإحتمال .
وفي عام 1955م تتم حركة تنقلات في السجون ، ونلتقي ونقترب من بعض أكثر ، إكتشف أن لغتي العربية ركيكة .. جلس معي نحفظ الشعر سوياً ، ونقرأ في كتب الأدب ، ونقرأ القرآن ، وإكتشف أنني لا أعرف من الإنجليزية إلا حصاد طالب ثانوي ، فجلسنا معاً ندرس الإنجليزية ، وبعد فترة أعطاني مثالاً صغيراً وطلب إلي أن أترجمه .. كانت الترجمة متعثرة ، فتحت القاموس ألف مرة ، وإرتبكت الأسطر بالإنجليزية أكثر يسراً ومع ذلك فقد أجلسنا في المساء لنحتفل ’’ بمولد مترجم جديد ‘‘ كما قال هو ، وتابعت بعدهـا بحماس دراسة اللغة الإنجليزية وترجمت تحت إشرافه عدة كتب ..

هكذا كان يعتبر أن السجن مدرسة .. كان ينصحني : بإمكانك أن تضيع وقتك في التنس أو الكوتشينة أو الشطرنج ، لكن أنظر إلي ما بعد سنوات السجن . إن كنت تريد أن تواصل أقرأ أو تعلم . وإتبعت نصيحته .
ودرس آخر ...
كنـا في ’’جناح ‘‘ لم نزل وحده ، ’’المتحد ‘‘ تمت وفي أثرها وحدة 8 يناير 1958م ، في السجن تمت الوحدة ، والوحدة في السجن أكثر صعوبة ، فالمواجهة يوميـة ، والخصوصة هي الخبز اليومي ، لكن الوحدة تمت ، وإختلفنا أنا وهو مع المسئول . كان زكي مراد قد رحل إلي سجن قنا للعلاج ، وبقي ’’ م.ش ‘‘ مسئولاً ، وكان متشدداً ، وكان الطرف الآخر يرتكب أخطاء جسيمة ، وفي كل لحظة ، وأصطدم التشدد بالأخطاء .. وكادت الوحدة أن تنفجر .
جلس قاسم معي ، أو بالدقة أجلسته معي وسألته ماذا سنفعل ؟ قال نحافظ علي الوحدة ، نغفر الأخطاء ، مرة ومرتين وعشراً . الوحدة تساوي أن نحتمل عشرات الأخطاء من أجلها ولسوف يواصل الإنقساميون أخطاءهم سنعلمهم ، سنزجرهم ، سنعطيهم ألف فرصة للتراجع عن أخطائهم .. فإن إستمروا سنركلهم بأقدامنـا ، ولكن بعد أن تستريح ضمائرنـا إلي أننـا قد أعطيناهم فرصة بل وألف فرصة وساعتها ، سينقسمون عراة من أي مبرر ، ومن أي تأييـد ومن أي سند .. سيخرجون أفراداً بلا سند تجللهم أخطاء لا تغتفر ، ولا تبرر ، وإصطدمنـا بالمسئول ، ورفضنا تشدده ، وتحملنـا إتهاماته ، وكنـا علي صواب .
مرة أخري تتفرق السبل ..
تنتهي سنواتي الخمس ويفرج عني ، ويبقي له هو ثلاث سنوات .
ونعود لنلتقي بعد رحلة شاقة .. إفراج ، هروب ، سجن ، ثم محاكمة عسكرية وخمس سنوات أخري .. وهذه المرة أشغال شاقة .
نلتقي في الواحات ولكن في سجن المحاريق وكنا في عام 1960م .
كان لم يزل كما هو . كما ألتقيته تحت المطر عام 1952م .. نفس التقاطيع الجهمة ، والروح الحلوة ، شعيربيضاء أضاءت هامته ، لكن القلب لم يزل فتياً .
كان يكتب روايته ’’ الشمندور ‘‘ وكان فزعه الحقيقي أن يحدث تفتيش وتصادر الأصول ، وتضيع روايته ، كان يبرر فزعه لي .. ’’ لم أتزوج ، وليس لي ولد ، إذا نشرت هذه الروايـة ستكون هي ما تبقي مني .. ‘‘ ( وكأنه كان يقرأ المستقبل ) . كنت أداعبه ، وأراوغه ثم عرضت عليه مشروعاً .. أن ننسخ الروايـة فصلاً فصلاً علي ورق البفرة ثم نرسله إلي الخارج .
أبدي عدم تصديقه لهذه الفكرة الخرافية ، من يحتمل أن ينسخ مئات الصفحات علي عشرات الآلاف من أوراق البفرة ، ترددت قليـلاً ، ثم قررت أن أرد للرجل بعض ديني نحوه .. وقلت أنا . تراكمت مخاوفه وكيف سنهربها إلي الخارج ؟ وإلي من ؟ وهل تضمن أن يتم الحفاظ عليها حتي نخرج ؟ تعهدت أن أرتب له الأمر كله .
وتطلب الأمر تعاهداً سرياً ، فحتي داخل السجن لابد من ترتيبات سرية ، ذلك أن تهريب كميات من ورق البفرة ستغري الآخرين بالمطالبة بالمثل ، كما أن تهريبها لخارج السجن سيغري الآخرين بالمطالبة بإرسال ما قد يرونه أكثر أهمية .. رسائل شخصية أو حتي ذات طابع سياسي ..

نظرياً حللنـا كل شئ في أول جلسة ، لكن الصعوبات كانت أكثر من مرهقة ، وللمرة الأولي إستخدم مسئوليتي عن العمل السري في السجن إستخداماً شخصياً ، كنت أسهم في مسئولية التهريب من وإلي السجن ، ووضعت مسألة ’’ الشمندورة ‘‘ في مستوي المسائل الأكثر أهمية .. كم من الوقت . كم من الساعات ، والليالي ، إستغرق الأمر ، لا أدري ، كنا نجلس القرفصاء علي أرض الزنزانة وقطعة ملساء من الخشب علي ركبتي ، هو يمليني وأنا أنقش علي ورق البفرة ، أكوام من ورق البفرة كتبت ثم لفها بعناية مدربة ، أرسلت إلي الخارج ، إلي ليلي الشال (أصبحت فيما بعد زوجتي ) حيث حفظتها لسنوات . وسلمتها لنا سالمة عندما أفرج عنا .
كان يبدو شارداً في الأيام الأولي لإرسال وديعته إلي خارج السجن ، وظل قلقاً حتي تلقينا إشارة من ’’ ليلي ‘‘ تفيد أنها إستلمت اللفافات ووضعتها في مكان آمن .
لكن قلقه لم يجف ، ولعله لم يكن مستعداً لأن يتخلص من أية قطرة منه ، وذات مساء أيقظني ، كان ينام علي برش في أقصي أركان الغرفة ، تخطي أو بالدقة تعثر في النائمين وأيقظهم وسط سباب غاضب ، كي يصل إلي ويوقظني ويحكي لي أنه أثناء قلقله تذكر أسطورة إغريقية قديمة تقول : ( خشي الفتي المحب علي قلبه من أن تفتنه إمرأة أخري غير محبوبته ، فنزع قلبه وخبأه في قلب ثور ، لكن الثور تاه وسط الأف الثيران ، فظل الفتي طوال حياته يلف بين الثيران باحثاً عن قلبه دون جدوي ) .

في البداية دهشت ، وصحت وأنا نصف نائم ’’ يا رجل روح نام ‘‘ لكنه أفهمني كيف يقلق وكيف يسهد خوفاً علي روايته ، وأنه يخشي أن يخرج فلا يجدهـا .



*




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الشمندورة!!!!!
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: الملف النوبي :: الحـــــــوار النوبي-
انتقل الى: